عندما كنت أبكماً
ذهبت الليلة إلى استشاري في جراحة الأسنان, وكنت أظن الأمر لا يتعدى خلع السن, ولكن الأمر تطور إلى عملية جراحية بسيطة في الفك السفلي, ولما شعر الطبيب بدهشتي اقترح عليّ تأجيل العملية, ولكنني رأيت أن التأجيل حماقة إذا كان المآل واحدا.
إذا كان لا بد الأسنة مركب ... فما حيلة المضطر إلا ركوبها
فأحضرت الممرضة الأدوات وأنا متعجب من كثرتها فتوكلت على الله.
تم تخدير موضع العملية, ثم بدأ الطبيب يحز مفارق الألم الذي ولى هاربا بسبب التخدير, وكأنني أسمع الألم يتوعدني بكرّة غاشمة بعد ذهاب البنج.
استغرقت العملية نصف ساعة وأنا لا أشعر بشيء حتى نبهني الطبيب بانتهائها, فحمدت الله الذي وهب لنا البنج فلا نشعر بآلام الجراحة. وتذكرت أسلافنا عندما كانوا يتداوون, وكانوا يتفاخرون بالصبر على ذلك حتى أن أحدهم قُطعت ساقه وهو لم يتحرك ولم يتألم.
عندها أشرت إلى الطبيب أن يكتب لي مسكنات خشية أن يكر عليّ الألم فيفسد عليّ متعة رمضان ومسامرة الأحباب.
خرجت من عند الطبيب وأنا مطبق بأسناني على قطعة من الشاش ولا أكلم الناس إلا رمزا.
الجزء الأيسر من وجهي كأنه ليس مني. أشعر كأنه ثقيل جدا. كنت أتساءل هل يشاهد الناس انتفاخا في وجهي؟ وعندما نظرت إلى المرآة كأن شيئا لم يكن, فقلت: إذن يا رداد توكل على الله واذهب إلى السوق لشراء بعض الضروريات مستغلا وقت البنج.
كنت أتجول في السوق وأنا لا أستطيع الكلام. بعض الأحيان آتي إلى مكان به عدد من الناس فلا أستطيع رد السلام فأقول في نفسي أخشى أن يلومونني في أنفسهم. ولكن حين يضطر أحدهم إلى محادثتي أشير له بيدي فيعرف أنني لا أستطيع الكلام, وبعضهم يظن أنني من البُكم, حتى أن أحد المصريين حدثني فأشرت له بأنني لا أستطيع الكلام فأشار بيده بطريقة تشبه إشارة الصم.
كنت أخاطب الباعة بالإشارة, فأجد صعوبة في إيصال مرادي, وإذا عييت كتبت ما أريد في ورقة.
حمدت ربي الذي وهب لنا ألسنة ناطقة, وما كنت أعلم قدر هذه النعمة حتى منعتني الظروف من استعمالها, وكم هي النعم التي نتقلب فيها آناء الليل وأطراف النهار ولا نعلم عنها إلا حين نفقدها,
كم أنت كريمٌ يا الله, فما شكرناك حق شكرك, وما عبدناك حق عبادتك.
وبعد أن رجعت إلى البيت أزلت الشاش, وبدأ مفعول البنج يذهب رويدا رويدا, وبدأ الألم يدب في رأسي, فبادرته بالمسكنات التي خففت من هجمته, فحمدت ربي مرة أخرى على أن هيأ لنا أدوية تخفف عنا آلامنا وجراحنا.
الأحد 3 / 9 / 1433هـ
التوقيع |
وأنسى الذي قد كنت فيه هجرتها
كما قد تنسّي لبّ شاربها الخمرُ |
آخر تعديل رداد الفضلي الهذلي يوم 07-23-2012 في 03:02 AM.
|